التخطي إلى المحتوى الرئيسي

خواطر 4 - نص (لاشيء) 2013

 خواطر 4 - لا شيء

كتبت هذا النص ونشرته عام 2013، وإنني أعيد نشره هنا في المدونة.

بقلم: محمد الدبس - 2013


جالسا في غرفته وحيدا، لا يفكر في شيء، يدخن.. ويتصاعد دخان التبغ ليحرق عينيه، فيصيبهما الأحمرار وتدمعان كما لو أنه حزين على ما مضى أو ما هو آت..

تدق عقارب الساعة بشكل منتظم، لتعبره فوضى عمره الماضي والآتي كما لو أنه ينتظر شيء ما أو يتحسر على شيء مضى..

كل شيء حوله يمنحه مظهرا لشعور لا يحسه، لفكرة لا تدور بين تلافيف دماغه.. الصور الصفراء المغبرة، الكتب المبعثرة، حتى صنبور المياه الخرب في طرف غرفته الصغيرة بقطراته التي تطرق بثقل حوض المغسلة المتسخ..

كانت غرفته تماما كحياته، ضيقة ومليئة بكل شيء، ففيها عدة مطبخ ومغسلة وسرير نومه ومكتبته وطاولة وكرسيان، كرسي له.. وكرسي لشخص آخر لم يآت، فوضوية كأيامه ... جدرانها رطبة يلفها السواد كدنياه.

تسلل سؤال إلى دماغه .. إلى متى؟؟ 

سؤال دخل كاللص ليسرق ذكريات قديمة، لص وقح مزعج أيقظ أحلاما نائمة كالأموات..

تمنى لو أن الكريات البيضاء يمكن لها أن تحارب الأسئلة والأفكار والأحلام، فتلتهمها وتحميه من الأمراض..

أية أمراض؟؟.. لم يكن طبيبا إلا أنه يعتبر الأفكار الميتة على عكس البشر.. لا تتحلل بعد موتها.. بل تتراكم وتتكاثر بينها جراثيم الألم والحسرة والقهر فيمرض الجسد ويذبل.. السرطان هو نتيجة تراكمية لموت الأحلام.

ضحك.. تبا كيف من الممكن لروحه أن تعيش وسط مقبرة أحلامه وأمراض تلف جسده ودخان يخنق رئتيه؟!!

سعل بقوة حتى كادت تتمزق أضلاعه.. أطفأ بارتباك سيجارته في المنفضة المليئة برماد تبغ قديم وأعقاب سجائر عاشت قصة عشق مؤلمة بين شفتيه.

هكذا الحب.. يحترق ويحرق.. تباً !!

تسلل سؤال آخر.. لماذا هو يدخن؟؟

أجاب نفسه: لست المدخن الوحيد في هذا الكون.. كل البشر تدخن، فأنا أدخن التبغ، وغيري كذلك، البعض يدخن أحلاما وأفكارا وأعمارا وقلوبا وأموالا وقضايا.. فالتدخين هو عملية حرق شيء.. لنستلذ به ومن ثم ندوسه تحت أقدامنا.

هكذا الكثيرون دخنوا لفافات أفكاره ومن ثم داسوها تحت أقدامهم بأحذية لامعة وغالية الثمن.. قيمة أكثر من كل ملابسه وعلبة التبغ وسريره.. وهو أيضا..!

نظر للسقف الرطب والمهترئ.. كانت تفترش زواياه بعض العناكب طويلة الأرجل، جامدة لا تتحرك كما لو أنها ميتة.. تبا لها لو أنها تتحرك قليلا.. فتضفي بعض النشاط للغرفة الميتة.

في زاوية الغرفة شاهد طرف مدخنة مخصصة لمدفئة لم يلتق بها منذ زمن.. في الشتاء يلتحف ببطانية إضافية مُنحت له من أحد جيرانه كصدقة.

يومها فكر لو أنه يتجه للشحادة.. فهي مهنة جيدة وليست بحاجة لكل شهادته التي تفترش الجدار، فقط بحاجة إلى دهاء ومكر.. إلا أن أحلامه المعندة رفضت الفكرة وأخبرته أنها ستتحقق يوما ما.

المشكلة أن هذه الأحلام كبعض النساء، تعشقها.. تهيم بها.. تعبدها.. وفي النهاية أو قبل النهاية بقليل.. تذهب كما لو أنها ما عرفتك يوما ... هكذا يدخن البعض لفافات من القلوب والعشق.

لماذا لم يدمن شيئا سوى تدخين التبغ؟؟ أما كان له أن يدمن شيئا آخر كبعض رفاقه.. تدخين الأموال والمصالح وبكارة العذارى؟!

فاشل !! صدمته صرخة بزاوية دماغه كانت مختبئة خلف أحد العصبونات..

سمع صوتا غريبا , ربما لأحد القوارض كان يحاول الخروج من بالوعة المغسلة أو خفافيش تعيش بسعادة في مدخنته الباردة.

قرأ ذات يوم في أحد الكتب عن التقمص وإعادة البعث، أن الأرواح تعود في حياة جديدة تتناسب وأعمال الإنسان في حيواته السابقة ...

ضحك... فالعناكب ربما تجسدت لأرواح أناس حاولوا سابقا نصب شباكهم للآخرين ليمتصوا عصارة أرواحهم ويرموهم أجسادا مدمرة ...

وبدأ يتخيل عددا ممن عرفهم ودرى بأفعالهم وماذا سيكونون في حياتهم القادمة، أعجبته اللعبة حتى مضى وقت طويل قبل أن ينتبه لظلام اشتد في غرفته المظلمة أصلا في ذلك القبو العتم.

الكهرباء مقطوعة!! أشعل قنديل كاز قديم ورثه عن أجداده، ولربما هذا القنديل هو الشيء الوحيد الذي ورثه إضافة للفقر..

ضوء أصفر انبعث من غرفته، تخيل أن فراشة ما ستحوم حوله، فقد قرأ ذات مرة أن الفراشات تحوم حول النار حتى تحترق.. ولكن أنى للفراشات التحليق في مروجه العفنة !!

 في الخارج كانت تمر دراجات نارية تصم الآذان بهديرها، تمنى لو انه امتلك واحدة أو على الأقل ركبها ولو مرة واحدة.. ليسرع بجنون كأنه نسر يشق عباب السماء ولكن نسر أرضي ... يشق عباب الزفت والوحل في الشوارع، دهمته فكرة تعرضه لحادث.

لم يستغربها.. كان دوما يتخيل أنه يموت بطريقة ما.. حادث، إطلاق نار، قتل ... كانت كل خيالته تؤدي لموت مؤلم ولكنه مميز.. ربما لرغبته في أن يبكي عليه بعض الناس لشدة هول المنظر الدامي وعظامه المطحونة.

ولكن من سيبكي ؟ الموت رخيص هذه الأيام ولا أحد يبكي على أحد.. حتى من جنازة لائقة هو محروم.

ولماذا؟ عاش طول عمره وحيدا، لا أصدقاء حقيقيين.. فكلهم تخلوا عنه عند أحد مواقف الحياة ليكمل طريقه في قطار الدنيا دون أن يتوقف في أي محطة..

ضحك.. لطالما كانت إحدى نصائح تشجيع الشباب أن يلتحقوا بقطار العمل والحياة قبل فوات الأوان.. لكنهم لم يكملوا النصيحة ليخبروهم أن عليهم النزول في محطة مناسبة وإلا فاتتهم الحياة أيضا.

ضحك كثيرا، كما لو أنه يسخر من الحياة، لكنه كان يضحك بالفراغ ومن الفراغ..

يقولون أن الحياة مسرحية وسواء أأعجبتك أم لا، فقد دفعت ثمن التذكرة... وبما أنها مسرحية، فقد عاش حلما طويلا وشجاعا بأن يكون أحد أبطالها.. ولكنه كان مجرد مشاهد، وبدون مقعد حتى.. شاهد العرض طويلا وهو واقف ينتظر.. اللاشيء...



تعليقات

إرسال تعليق